نقطة نظام.. نقطة فوضى

إنني أفتح نوافذ غرفتي لتدخل إليها الرياح من كل جانب، لكنني لا أسمح لأية ريح بأن تقتلعني من جذوري. المهاتما غاندي
إن الأضداد لتتفق، وإن أجمل انسجام هو ما يتولد عن الإختلاف. هيراقليطس

الخميس، 24 أبريل 2008

هل هذه هي الرجولة 2/2


إذا كان هذا هو صدام الرجل، أو هذه بعض من ملامحه، أو هي كلمات مما يستحق، فإن الضحية فيه، في شخصه كان أمة. وعندما سيق سيقت قضية بأكملها إلى المشنقة، أو هكذا أريد أن يتحقق و لو رمزيا. ومعروف في تاريخ الديانات، في أيام العرب و العجم و البربر، في أساطير مختلف حضارات الأرض قاطبة، و في بداوات و حكايات الشعوب الغارقة في القدم و عبر الأمكنة، أن التضحية شيء عظيم و مقدس و قيمة أسمى تتربع في رأس هرم المثل، بل المثل العليا. أما السر في ذلك فهو ثمن التضحية، خاصة عندما تكون بالروح، أو هو بعبارة أخرى غياب المقابل و المقابل المادي على وجه التحديد.

تحتاج التضحية عادة للإيمان و الشجاعة. وما أقدم عليه الرجل لا يمكن تفسيره بعيدا عن هاتين الصفتين، و لا بمعزل عن القضية التي من أجلها كان ما كان و لأجلها نذر الرجل نفسه و حث الخطا حتى إلى المشنقة دون أن ترتعد له شعرة. إن الإحساس بأهمية المسعى و نبل الغاية و ثقل المسؤولية يمضي بالشعور بضآلة الذات و تفاهة أغلى الأشياء إلى منتهاه. ولا سلبية في ذلك إذ أن قضية أمة كاملة و مسألة حياة أو موت شعب تفرض النظر إلى كون سقوط جندي واحد بل ألف على أنه مما يهون في مقابل الهدف الأكبر وهو الدفاع عن هذه القضية.

إن ثمة سحر لا يقاوم و تأثير لا سبيل إلى نكرانه, ليس إلى التضحية كفعل فهي مما تتراجع عنه صغار النفوس, و لكن المقدم عليها يأخذ بلب حتى أعدائه, و يأخد مكانة لا تمحى و ذكرا لا ينسى في ذاكرة و قلوب أنصاره. بمعنى أن المرء حين يرى غيره يسير بخطى ثابتة إلى تجربة خطيرة مهيبة, يحبها و يخافها, يحلم بها و لا ينوي التجاسر عليها, تجتاحه انفعالات بينها الغيرة و الخوف و الإندفاع. يكفي أن ذلك يحبب حتى الموت كما دون في الأدب العربي حول قصيدة :

علو في الحياة و في الممات لحقا تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا وفود لديك أيام الصـلات

حيث يذكر أن الآمر بالشنق تمنى لو كان مكان المشنوق, ليس لمجرد جمال المرثية و حسب, فهناك العناصر التي أحيتها الكلمات, أو عبرت عنها و قد كانت موجودة, و هي الشجاعة في مواجهة المصير, و الماضي المشرق. وهذا حال صاحبنا, الذي اتكأ على حق و مطلب عادل و واجه العدو, و حين حان حينه بدا غير مكترث بأشد ما يرعب الإنسان, و كأنه متمرد يتغلب على طبيعة النفس البشرية, و لو للحظات يتعلق فيها بالذات الإلهية.

أما و قد صنفت العرب, الذين عرفوا سابقا بعنايتهم الخاصة بالقيم الجود بالنفس على أنه غاية الجود, فإن الرجل يمكن أن يكتب من أكرم الناس في عصره.علما أن الذي يقدم عطاءه لملايين أعظم حظا في السخاء ممن يعطي لواحد أو عشرة. و إلى آخر يوم في التاريخ ستظل رمزية الفداء تجب ما سبق عليها من أخطاء.
على أنه لابد مع استحضار القضية و كيف ذهب الضحية إلى مثواه و لماذا لم يوف حقه بعد رحيله, من إبداء تأملات يمكن أن توضع في خانة التفكير بصوت عال أو تجرع المرارة مع ملأ أو في حشد أنا واثق من أنه موجود بالقوة و الفعل.

■ إن القضية التي واجه دونها الرجل أعتى قوى الشر في عالمه, مهما كانت تستحق و بغض النظر عن عدالتها, كانت قضية خاسرة منذ البداية. ليس هذا مبررا للتقاعس عنها, ولكنه على العكس من ذلك دليل على آخر على إستماتة البطل حتى في النضال المحكوم عليه بالفشل الذي يقف وراءه تلكؤ من يفترض فيهم أن يكونوا جنود المعركة إلى جنبه, و ليس حتما مرده قوة العدو. فأخطر نقاط الضعف في أي صراع كبير, هي تلك النابعة من الداخل, لا تلك التي يشكلها الآخر أو الطرف الثاني في النزاع. و الإعلام بالمناسبة واحد من بين أهم الأمور التي نرى أنها أسهمت و تسهم بشكل فعال و مدمر جدا في هذا, لأن مفعوله يسري على البنية الفكرية و الروحية.

التأكيد على دور الإعلام يقود رأسا إلى تأكيد عمق المسافة بين الماكينة الدعائية الضخمة و الهائلة بكل المقاييس, و التي يستخدمها الغرب عامة و أمريكا تحديدا بشكل إستثنائي, من جهة، و من جهة أخرى تلك الإمكانات التواصلية الضعيفة أصلا للعرب و التي يتم استغلالها بطريقة مثيرة للسخرية و البكاء و الضحك.. لتعزيز الماكينة الغربية المعززة بما يكفي لإلتهام ذهنية العالم كله.

لقد نجح الإعلام المعادي في التحضير للإطاحة بصدام, ليس كشخص نحبه أو نكرهه, نتفق معه أو نختلف, و لكن كرمز لتمردنا في وجه الجبروت الآتي من العالم الجديد, هذا العالم اللاتاريخي و المعادي للتاريخ. وكانت الرسالة موجهة إلينا, و في نهاية المطاف إستعملت أسلوبا قاسيا لوخزنا بعد التنويم, بغية التأكد من أننا لم نعد نصحو, و مع أنها كانت مجازفة إلا أن النتيجة لم تكذب التوقع, و لم يصدر منا أي رد فعل بحجم الفعل المطلوب لمواجهة الإهانة العظمى.

لقد كان و ما زال بإمكانهم أن يصرخوا كما فعلوا ذات يوم من عام 1945 وهم يرددون بصوت عال: نجحت التجربة.. في العالم العربي الناس ينامون كما ينبغي. و الواقع أن كثيرين من أعداء الرئيس, و من الجبابرة الساجدين لراعي البقر غطوا في سبات عميق في تلك الليلة, واهمين أنهم حينما يستيقظون و قد خلى لهم وجه الأرض من وجهه و صوته سيكونون بألف ألف خير.لكنهم حين استيقظوا لم يكونوا واعين, و عندما ناموا كانوا أصلا نائمين.. ولم يتغير الوضع قيد أنملة.

إن الأساطير, و هي صناعة إعلامية بالدرجة الأولى تعرف صحوة لا مثيل لها. و تجدر الإشارة إلى أن هناك أساطير مؤسسة للنظام العالمي الجديد. أساطير تكبل العقلية الحقيقية لمواجهة الغطرسة: عقلية المقاومة.ذلك بما تزرع في العقل من أفكار جاهزة تملي على الإنسان العربي جملة من المعوقات السلبية و الإيجابية: بينها الرعب المطلق المسبق, و الطمع الخداع, و التصور الخاطيء لحسن النية و سبل السلام و التعايش. و هذه الشرائح المزروعة في الذهنية المعاصرة, أو الفطرية المغذاة, توجه من خلالها الجماهير الغفيرة, بما يضمن تحقيق الأهداف الإستيراتيجية للمعتدي بأقل خسارة وتكاليف, وفي نفس الوقت إصابة المرمى عند إستخدام الأسلحة, ليس لدقة التصويب و مهارة القنص, و لكن لقوة التحكم في المرمى ذاته.
فمتى نعمل بمقتضى أن الإعلام سلاح .. و قاتل؟؟

■ على صلة بالإعلام و بموت الزعيم , يلفت الأمر النظر إلى أن كل ما هو "رسمي" في عالمنا ينحو إلى أن يكون لا علاقة له بنا, و لا يعبر عنا. و ضمن ذلك وسائل الإتصال مكممة الأفواه التي تسمى وطنية. فما جرى بالفعل كان ممالئة يعاقب عليها القانون في حالة تزوير العملة, و يبدو أنه لا يصنفها إذا تعلقت بتزييف الوعي. لقد غيبت الحقيقة بشكل مخزي, و تم تجنب كل ما من شأنه –من مصطلحات- أن يجسد الحقيقة, وران صمت ثقيل, و لأن الصمت أيضا رأي, فقد كان مقصودا من ورائه التقليل من رمزية الحدث, و من مدى أهمية الواقعة التي تمثل لحظة حاسمة و علامة فارقة في حاضر الأمة و الشعوب العربية. و بقدر ما كان الأمر مسعى لقمط الرجل حقه, كان محاولة لحجب دلالة صارخة تتبرم من قيودها لتنتصب فوق الرؤوس مستنهضة بقايا المحاسن , و منذرة من العاقبة الوخيمة.

■ إن التعتيم سياسةً, هو أداة لحصار الفكرة أو تشويهها. و ليضرب طوقه على ما يرى أساطين تشخيص مصلحة "النظام العربي" ضرورة طمسه, تدخل على الخط إلى جانب الإعلام أجهزة الديبلوماسية. و هذه الديبلوماسية حين نتأملها نكتشف كذبة كبيرة, فليس "سلكها" كما يسمى في بلداننا سوى حبال خديعة. حبال خديعة لم تنجح في الإيقاع بمن توجه عملها ضده من الأجانب – و الخديعة واردة في هذا السلك مهما كان- بيد أنها وصلت غايتها بجعل المكذوب عليهم منا يظنون ذلك. ما أسخف أن نصدق أن كل تلك الجهود و الدولارات و العلاقات العامة و الدولية إسطاعت و لو لمرة واحدة – و هو ما يزعم دائما – أن تمنع عدوانا وشيكا أو خطرا أو حربا كانت على مرمى حجر منا, و ستأكل لو حدثت الأخضر و اليابس في أرضنا "الخضراء". هناك في الواقع نوع واحد من الديبلوماسية –دعك من المفاوضات الشكلية- و هو تقبيل أقدام الغزاة, و التوسل إلى خيولهم أو غبارها أن تبقى في مكانها و يأتيها ما تريد على طبق من ذهب. إنها ديبلوماسية أسكت و لا تتعب نفسك, أنا أتكلم عنك لهم, فلا تقل شيئا هم يفهمونني أكثر و سأقنعهم. وهذا صحيح فهم أيا كانوا يفهمون "خذ" بأية لغة, أما هؤلاء الخاسرون فكل ما يريدونه الآن هو ألا يخسروا شيئا آخر, أما إستعادة ما ضاع و أما الربح فهذه معان أغرب من المتنبي في شعب بوان.


ذهب الرجل، و تواطأ البعيد و القريب على أن لا يبقى منه شيء، لكنه باق. و هذه ليست مشكلته لكنها قصة البشرية. فما هو واضح من التجربة الإنسانية أنه كلما قدم إنسان نفسه بإخلاص لقضية، و نذر روحه دفاعا عن حق، إلا و خلد على قدر أهمية ما ضحى من أجله. و إذا رسخ علما لدينا أن القضية عظيمة جدا، و المشكلة لم تنته، و الأسباب و النتائج السيئة، كل ذلك مايزال ماثلا.. و لا بوادر في الأفق لبديل أو خلف، ترسخت لدينا أكثر فكرة أن البطل و التضحية الجسيمة ..لن يخبو ذكرهما بين عشية و ضحاها كما تمنى العدو القاصي و الأعداء الدانون، و هكذا يبقى ببقاء الذكرى أمل مخبؤ إلا قليلا لكنه موجود...
لكنه موجود...

الثلاثاء، 5 فبراير 2008

هل هذه هي الرجولة ؟


بقي وسيظل هذا السؤال مدويا يهز ضمير أمة خاضع لتنويم مغناطيسي ثقيل، يعبر في صحراء الجبن العربي بحثا عن إشارة. طاف في سماوات الصمت الذي يترجم رضى مريبا عن حال مزر، رضى لا يمكن أن يفسرعن وضع لا صبرعليه إذا كانت حقا للصبر حدود. ونزل الصوت الأجش الهادئ الجارف مطرا حمضيا ينشر العار غسيلا على رقاب رواد التدجين وحملة عرش الهوان الذي تتداعى اركانه وإن طال الزمن. بيد أن هذه الكلمات ستنزل غيثا يستثير بعض بذور النخوة النائمة، وبقايا ما تبقى من كبرياء همة في هذه الارض المستباحة بين تخوم الحائط الواطئ.

قال الرجل خطبته المقتضبة مسائلا وجدان التاريخ عن تاريخ البطولة والأبطال وعن من صنعوه. لم تكن تلك الكلمات موجهة للأعداء سخرية منهم, ولو أنها إختصرت قاموس التهكم والهجاء العفيف في حروف, بقدرما كانت رسالة صادقة توجة العقل وليس وحدها العين للمعنى المقابل . لقد كانت بعبارة أخرى تحاول أم تعلمنا كيف نصنع الرجولة إذا كنا على إستعداد لتحمل تكاليف مواجهة الظلم والغطرسة .
في البدء، ستهوى كلمات الرجل الرجل وليس الدمية ـ الرجل الذي له حظ من إسمه ـ على رؤوس ذوي القامات القميئة من متسلطي هذا الزمان الذي وصمناه بذلنا في دويلات الفرقة المذمومة، لتجعلهم أصغر من الصغار و أقصر من هممهم. ولا شك انها ستقنطر جسورامن فوقهم للأجيال القادمة ولأصحاب الهامات المرفوعة ليعبروا بنا نحو أفق غير هذا الملبد بدخان هزائمنا على الارض, وافراح زمر هذه الحيوانات التي تحكمنا .ذلك الأفق الذي نعيش فيه خارج هذا التناقض المحير بين شعوب تهان وتمرغ كرامتها ودعك من الوجوه والاشلاء في التراب والعذاب ,بينما يبدو ساستها وهم في عالم النعيم المقيم لا يتكلمون إلا بالسلام,ولا يعترفون إلا أننا بألف خير. فهل تراهم يعرفوننا؟.

يستمد هذا التشكيك مشروعيته,من واقع الإنفصال بين الواقع ونفسه. فإذا كان واقع الشعوب هو نفسه واقع قادتهم,والمتحكمين بزمام أمورهم,فهذا بجعلنا ولو فرضيا , أمام واقع واحد,وبالتالي لا يمكن ان نقول انه يواجه صدعا عميقا ,يجعل ثمة حد فاصل نفسي ,وإقتصادي وفكري بين الإثنين.وفي هذا الصدد فإن الأجدر بالشعوب أن تحاول إصلاح ذواتها من الداخل, داخل حدودها"الشعبية" المتماسكة والإستغناء عن سقط المتاع, تاركة إياه وحده للذل والفناء أو الهجرة والإضمحلال والرق.أما إذا كان الأصل في المسألة أن هناك واقعين منفصلين لا تربطهما على الأقل منذ وقت إلا روابط شكلية وكرنفالية. ففي هذه الحالة أيضا على الأمة أن تنطلق من إحساسها بذاتها مادام ليس هناك من يحس بها لتخط بنفسها مسارها الآمن بعيدا عن سارقي أمجادها المحكوم عليهم بالخيانة ,وعن ما يخطون لها من مسارات في صحارى التيه . وفي الحالتين كلتيهما يتشابه الإجراء.

إن مأساة أمتنا تدين بجزء كبير منها لحفنة ممن آمنوا بالخوف من جبروت الأعداء لدرجة أنهم قاموا بتصديره عبر وسائل شتى ضمنية تتخذ اهم مظاهرها من تصرفاتهم وقرارات يتخذونها لا تاخذ في الحسبان إلا كونهم عبيدا لكراسيهم و لاتخدم إلا ألد الخصوم لشعوبهم .ولعل هذا الأمر فعلا مثير للإستغراب ,ولكن المدهش أكثر هو أن هذا السلوك ياخذ منحى أكثر دموية عندما يتجسد في تحطيم ذاتي بتأثير خارجي كما هو الحال في معظم الإنهيارات التي نشهدها منذ عقود وشهدها تاريخ الأمة منذ قرون.والمؤلم أن الشرذمة المعدلة ذهنيا تحطم الأرقام القياسية في العبث بوجود الشعوب المستكينة لحكمها ,وفي إدارة الظهر لتراث الإسلام والعروبة ومآثرهما الخالدة.

على مفترق طرق تضعنا إذن كلمات هذا الرجل ,لأنها تحرك فينا الرغبة في معرفة ما يجب أن يكون , من دون الجماعة التي لا أمل فيها.ولن يخرج رنين سؤاله آذان أولئك البؤساء الذين لم يضحوا يوما ,وهو يلعن في أعماقهم الجوفاء ذلهم وإذلالهم لأمة علق بعضها براءة منهم ,آمالا عريضة عليهم بأن يعزوهم للأسف الذريع. وهيهات لهم .

في نفس الوقت يضعنا إلهامه على ملتقى طرقات , على إختلاف توجهاتنا وتباين مشاربنا ,جاعلا نصب أعيننا إسترداد إرادتنا قبل تحرير أوطاننا. دافعا بنا من أطراف جوانحنا وعقولنا وأيدينا ,إلى السطح , سطح الواقع البشع .وكأننا موجة العمق التي يحتاج تاريخ الأمة المعاصرإلى تجمعها ,وإلى أن تضرب بقوة حتى تتحطم مظاهر وجذور الخزي الحضاري الذي شوهنا به أنفسنا قبل أن يجعل منا الآخر سلة مهملات يلقي عليها بأوساخه.

بالنسبة للرجل , فقد عاش عمرا طويلا علامة إستفهام مهيبة تشاكس علامات التعجب ـ المفرغة من المعنى ـ التي يمثلها نظراؤه, وهم يهزون رؤوسهم موافقة على كل قرار يتخذه سيدهم الغربي حتى ولو كان بإعدامهم .لقد كان موجودا بالفعل ,بينما يكتفي الآخرون بوجودهم بالقوة, وعاش حيا و ميتا. نعم ,إن بإمكان المرء كما هو معروف ,أن يحيى خاصة إذا كان حاكما ,حياة طيبة بمقياس المادة ,وإشباع الرغبات, ولكن حين يصبح عبدا لتلك الحاجات يسهل إنقياده لأبسط الأشياء وأضعفها ,وحين يكون كل ما يهمه هو تأمين هذه الطلبات مهما كان الثمن ,يبيت في المتناول توفير ما يريد مقابل أخذ ما هو في غنى عنه , أو في عمى عنه على الأصح, من قيم , وحرمانه أمور هي أنفس بكثير مما يقدم له. ولكن مسألة المعايير هذه تغيب عن كثير من ساستنا غير هذا الرجل.

أما هو فقد ظل يحس بأنه , وإن كان يجلس مثل كثيرين على كرسي وثير مريح , يحمل على عاتقه الصلب مسؤولية جسيمة, بل جزئين كبيرين من قارتين , وطنا عربيا ممتدا بين الظلم والإستعمارو مساعي التجزئة. وهكذا لم يفارقه الشعور بالغيرة على أمته , محاولا أن يتخذ من نفسه حامي حماها حتى ولو كان سيدفع مقابلا لذلك من دمه. ولولا أنه بحمد الله في قواميس العربية و لغات العالم أجمع كلمة إسمها الشجاعة , وصفة إسمعا الرجولة, للازمتنا حيرة مزمنة في تحديد نفسية هذا الإستثناء, الذي عرفه عصرنا , عصر الجبناء العرب, وكان بذالك قمرا في سماء مظلمة.