نقطة نظام.. نقطة فوضى

إنني أفتح نوافذ غرفتي لتدخل إليها الرياح من كل جانب، لكنني لا أسمح لأية ريح بأن تقتلعني من جذوري. المهاتما غاندي
إن الأضداد لتتفق، وإن أجمل انسجام هو ما يتولد عن الإختلاف. هيراقليطس

الثلاثاء، 5 فبراير 2008

هل هذه هي الرجولة ؟


بقي وسيظل هذا السؤال مدويا يهز ضمير أمة خاضع لتنويم مغناطيسي ثقيل، يعبر في صحراء الجبن العربي بحثا عن إشارة. طاف في سماوات الصمت الذي يترجم رضى مريبا عن حال مزر، رضى لا يمكن أن يفسرعن وضع لا صبرعليه إذا كانت حقا للصبر حدود. ونزل الصوت الأجش الهادئ الجارف مطرا حمضيا ينشر العار غسيلا على رقاب رواد التدجين وحملة عرش الهوان الذي تتداعى اركانه وإن طال الزمن. بيد أن هذه الكلمات ستنزل غيثا يستثير بعض بذور النخوة النائمة، وبقايا ما تبقى من كبرياء همة في هذه الارض المستباحة بين تخوم الحائط الواطئ.

قال الرجل خطبته المقتضبة مسائلا وجدان التاريخ عن تاريخ البطولة والأبطال وعن من صنعوه. لم تكن تلك الكلمات موجهة للأعداء سخرية منهم, ولو أنها إختصرت قاموس التهكم والهجاء العفيف في حروف, بقدرما كانت رسالة صادقة توجة العقل وليس وحدها العين للمعنى المقابل . لقد كانت بعبارة أخرى تحاول أم تعلمنا كيف نصنع الرجولة إذا كنا على إستعداد لتحمل تكاليف مواجهة الظلم والغطرسة .
في البدء، ستهوى كلمات الرجل الرجل وليس الدمية ـ الرجل الذي له حظ من إسمه ـ على رؤوس ذوي القامات القميئة من متسلطي هذا الزمان الذي وصمناه بذلنا في دويلات الفرقة المذمومة، لتجعلهم أصغر من الصغار و أقصر من هممهم. ولا شك انها ستقنطر جسورامن فوقهم للأجيال القادمة ولأصحاب الهامات المرفوعة ليعبروا بنا نحو أفق غير هذا الملبد بدخان هزائمنا على الارض, وافراح زمر هذه الحيوانات التي تحكمنا .ذلك الأفق الذي نعيش فيه خارج هذا التناقض المحير بين شعوب تهان وتمرغ كرامتها ودعك من الوجوه والاشلاء في التراب والعذاب ,بينما يبدو ساستها وهم في عالم النعيم المقيم لا يتكلمون إلا بالسلام,ولا يعترفون إلا أننا بألف خير. فهل تراهم يعرفوننا؟.

يستمد هذا التشكيك مشروعيته,من واقع الإنفصال بين الواقع ونفسه. فإذا كان واقع الشعوب هو نفسه واقع قادتهم,والمتحكمين بزمام أمورهم,فهذا بجعلنا ولو فرضيا , أمام واقع واحد,وبالتالي لا يمكن ان نقول انه يواجه صدعا عميقا ,يجعل ثمة حد فاصل نفسي ,وإقتصادي وفكري بين الإثنين.وفي هذا الصدد فإن الأجدر بالشعوب أن تحاول إصلاح ذواتها من الداخل, داخل حدودها"الشعبية" المتماسكة والإستغناء عن سقط المتاع, تاركة إياه وحده للذل والفناء أو الهجرة والإضمحلال والرق.أما إذا كان الأصل في المسألة أن هناك واقعين منفصلين لا تربطهما على الأقل منذ وقت إلا روابط شكلية وكرنفالية. ففي هذه الحالة أيضا على الأمة أن تنطلق من إحساسها بذاتها مادام ليس هناك من يحس بها لتخط بنفسها مسارها الآمن بعيدا عن سارقي أمجادها المحكوم عليهم بالخيانة ,وعن ما يخطون لها من مسارات في صحارى التيه . وفي الحالتين كلتيهما يتشابه الإجراء.

إن مأساة أمتنا تدين بجزء كبير منها لحفنة ممن آمنوا بالخوف من جبروت الأعداء لدرجة أنهم قاموا بتصديره عبر وسائل شتى ضمنية تتخذ اهم مظاهرها من تصرفاتهم وقرارات يتخذونها لا تاخذ في الحسبان إلا كونهم عبيدا لكراسيهم و لاتخدم إلا ألد الخصوم لشعوبهم .ولعل هذا الأمر فعلا مثير للإستغراب ,ولكن المدهش أكثر هو أن هذا السلوك ياخذ منحى أكثر دموية عندما يتجسد في تحطيم ذاتي بتأثير خارجي كما هو الحال في معظم الإنهيارات التي نشهدها منذ عقود وشهدها تاريخ الأمة منذ قرون.والمؤلم أن الشرذمة المعدلة ذهنيا تحطم الأرقام القياسية في العبث بوجود الشعوب المستكينة لحكمها ,وفي إدارة الظهر لتراث الإسلام والعروبة ومآثرهما الخالدة.

على مفترق طرق تضعنا إذن كلمات هذا الرجل ,لأنها تحرك فينا الرغبة في معرفة ما يجب أن يكون , من دون الجماعة التي لا أمل فيها.ولن يخرج رنين سؤاله آذان أولئك البؤساء الذين لم يضحوا يوما ,وهو يلعن في أعماقهم الجوفاء ذلهم وإذلالهم لأمة علق بعضها براءة منهم ,آمالا عريضة عليهم بأن يعزوهم للأسف الذريع. وهيهات لهم .

في نفس الوقت يضعنا إلهامه على ملتقى طرقات , على إختلاف توجهاتنا وتباين مشاربنا ,جاعلا نصب أعيننا إسترداد إرادتنا قبل تحرير أوطاننا. دافعا بنا من أطراف جوانحنا وعقولنا وأيدينا ,إلى السطح , سطح الواقع البشع .وكأننا موجة العمق التي يحتاج تاريخ الأمة المعاصرإلى تجمعها ,وإلى أن تضرب بقوة حتى تتحطم مظاهر وجذور الخزي الحضاري الذي شوهنا به أنفسنا قبل أن يجعل منا الآخر سلة مهملات يلقي عليها بأوساخه.

بالنسبة للرجل , فقد عاش عمرا طويلا علامة إستفهام مهيبة تشاكس علامات التعجب ـ المفرغة من المعنى ـ التي يمثلها نظراؤه, وهم يهزون رؤوسهم موافقة على كل قرار يتخذه سيدهم الغربي حتى ولو كان بإعدامهم .لقد كان موجودا بالفعل ,بينما يكتفي الآخرون بوجودهم بالقوة, وعاش حيا و ميتا. نعم ,إن بإمكان المرء كما هو معروف ,أن يحيى خاصة إذا كان حاكما ,حياة طيبة بمقياس المادة ,وإشباع الرغبات, ولكن حين يصبح عبدا لتلك الحاجات يسهل إنقياده لأبسط الأشياء وأضعفها ,وحين يكون كل ما يهمه هو تأمين هذه الطلبات مهما كان الثمن ,يبيت في المتناول توفير ما يريد مقابل أخذ ما هو في غنى عنه , أو في عمى عنه على الأصح, من قيم , وحرمانه أمور هي أنفس بكثير مما يقدم له. ولكن مسألة المعايير هذه تغيب عن كثير من ساستنا غير هذا الرجل.

أما هو فقد ظل يحس بأنه , وإن كان يجلس مثل كثيرين على كرسي وثير مريح , يحمل على عاتقه الصلب مسؤولية جسيمة, بل جزئين كبيرين من قارتين , وطنا عربيا ممتدا بين الظلم والإستعمارو مساعي التجزئة. وهكذا لم يفارقه الشعور بالغيرة على أمته , محاولا أن يتخذ من نفسه حامي حماها حتى ولو كان سيدفع مقابلا لذلك من دمه. ولولا أنه بحمد الله في قواميس العربية و لغات العالم أجمع كلمة إسمها الشجاعة , وصفة إسمعا الرجولة, للازمتنا حيرة مزمنة في تحديد نفسية هذا الإستثناء, الذي عرفه عصرنا , عصر الجبناء العرب, وكان بذالك قمرا في سماء مظلمة.