نقطة نظام.. نقطة فوضى

إنني أفتح نوافذ غرفتي لتدخل إليها الرياح من كل جانب، لكنني لا أسمح لأية ريح بأن تقتلعني من جذوري. المهاتما غاندي
إن الأضداد لتتفق، وإن أجمل انسجام هو ما يتولد عن الإختلاف. هيراقليطس

الجمعة، 21 أغسطس 2009

أما بعد .. فماذا بعد؟



بينما القوم يتجرعون خمر اليوم، يجب أن نتساءل عن أمر الغد. لقد جرت مراسيم تنصيب الرئيس المنتخب ـ لا ندري كيف ـ كيميائيا كما يرجح البعض، وستستمر مواسم التزلف والتقرب المناقضة لشعار القضاء على الفساد أياما آتية. دون شك، لا نهاية في القريب المنظور للاختطاف الذي تم إضفاء قدر من رتوش الشرعية عليه عبر الانتخابات التي جرت مؤخرا، وبمساهمة المناهضين للانقلاب على الديمقراطية أنفسهم.

في هذه الظروف يبدو محببا، وملائما لإبداء حسن النوايا، كما يزعم الكثيرون، أن نقفز على تلك المرحلة ونفتح نوافذ الآمال على عهد حسمت بدايته ويوشك أن يستمر. ينطلق البعض من أن هذا هو الواقع الذي أفرزته مرحلة اتسمت بالحوار والنقاش المثمر، وتوجت بما جرى واتبع من إجراءات وصولا إلى النتيجة المعروفة. يقولون ـ بعضهم لا أكثرـ أن من مصلحة موريتانيا أن يرضخ الجميع للأقدار ـ وكأن هناك من يحاربها برفضه الاعتراف ـ وأن يقتنع كل واحد بنصيبه السياسي الذي حصل عليه إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة وكأنها ضربة حظ.

يسهل القبول بالنتائج التي لم تكن متوقعة، انطلاقا من سعي مثالي ومتسامي مطبوع بالقدرة على التنازل، ومن جنوح إلى السلم والاستقرار الذي تظل البلاد في غنى عن فقدانه، ولكن هذا لا يعني البتة سهولة تصديق ما لا يمكن أن يصدق. وحتى إشعار آخر، فإن ملابسات ما أوصل إلى يوم تنصيب الجنرال محمد ولد عبد العزيز رئيسا منتخبا للبلاد يظل يكتنفها الغموض. بالطبع يجادل البعض بأن ما يهم ليس ما حصل، وإنما ما سيفرزه الواقع الجديد، ولكن ربما لن يجادل في أن ثمة أمورا مترابطة يؤثر أولها في آخرها، ويلقي سابقها بظلاله ـ الثقيلة أحيانا ـ على اللاحق.

تكمن أولويات المواطن البسيط، بعيدا عن كل ما لا يفهم وما لا يهمه أن يفهم، في ما يمكن أن ينجز لمصلحته وما سيعود عليه بالمنفعة والخير العميم. لكن عندما نؤمن أن المواطن البسيط لم يعد هو المواطن الساذج لا بد أن نكتشف أن السؤال: ماذا بعد؟.. سيظل مرتبطا بماذا قبل. من هذه الزاوية تصبح معرفة ما ينتظر من الرئيس الجديدـ القديم على صلة وثيقة بماضيه القريب وسياساته في الفترة السابقة.

يراهن البعض، خاصة أنصار الجنرال، على شعار جميل رفعه أثناء حملته التي بدأت مبكرة يصوره رئيسا للفقراء، وتقوم هذه الدعاية على زيارة لأحد الأحياء البائسة في العاصمة نواكشوط ـ يا للثورة المفاهيمية والعملية ـ لكنها تصطدم بجملة من الأسئلة أولها ماذا عن ثروة رئيس الفقراء نفسه؟ ثم ما علاقة الإنشاءات الانتخابية والوعود الوهمية بحل مشاكل المواطنين إذا كانت قضية "سكانيرات" ما تزال قريبة؟ ولا تنتهي الشكوك عند طوباوية مشاريعه المستقبلية التخديرية التي تقوم على عمليات حسابية كان يطرحها في تساؤلات استغرابية من قبيل: كيف لبلد يملك ما نملك من الثروات أن يعيش فيه فقير؟

يتمثل الركن الثاني في قائمة الخطوط العريضة لأجندة الجنرال كما ظهر من حملته وتعهداته المتواصلة، في القضاء على الفساد، وفي نفس الوقت فإن هذا المصطلح لديه يبدو أكثر هلامية من أي شيء آخر في معجمه السياسي، وقد ثبت من خلال تطبيقه لهذا المفهوم عمليا أنه مطاط، يتسع ليشمل كل مخالفيه في الرأي. وإذا كان من شيء يمكن أن يتماهي معه "الفساد" كما يعرفه سيادته، فهو الإرهاب في نظر الولايات المتحدة وكما حاربه بوش: كلمة لا معنى لها إلا ما تحدده لحظة القرارات التدميرية.

لقد روج على نطاق شامل لتصور مفاده أن شرائح واسعة من الضعفاء والمستضعفين والفقراء والمحرومين هي من أخذت على عاتقها مهمة حمل الجنرال إلى كرسي الرئاسة مجددا، وتقول الحكاية أن المواطن المنهك الذي تحطمت آماله وسحقت أحلامه في ظل فترات الحكم السابقة آمن أن الجنرال الساعي إلى منصب الرئيس المنتخب هو الأقرب لأن تعقد له ألوية الولاء ويصوت له من أجل إصلاح ما فسد وبناء ما لم يبن. وثمة جزء من الحقيقة، في هذا الطرح الذي لا يغفل طابعه ألإشهاري، يتمثل في تبرم فئات عريضة من المجتمع الموريتاني من الأوضاع، واستعداد بعضها لتعليق آماله على من يخطب وده بكلمات تلامس واقعه حتى ولو كانت مجرد كلمات، لكن "أسطورة" الدعم الشعبي القوي تخفي "معجرة" القوة الاقتصادية المشبوهة والآلة الأخطبوطية غير المشروعة التي سخرت لإدارة الحملة والتحكم في مجرى الانتخابات.

مهما يكن، فإن الفقراء الذين زعم أنهم كانوا وراء عودة العسكري إلى مقعده في ثوب مدني لا شك يفتحون الآن عيونهم ـ إذا كان لهم وجود ـ ويترقبون مع الآخرين من الخصوم والمنافسين الذين صدموا بدرجات متفاوتة على خلفية النتائج التي حملها الاقتراع، لعلهم يتابعون سويا مرحلة تنفيذ الوعود وإطلاق الورش والمشاريع التي ستكون كفيلة بانتشالهم من الأوضاع المتردية. وقد أشرعت لحظة تنصيب الجنرال المنتخب الباب على : ماذا بعد؟ ويملك الجميع في أذهانهم إجابات حاضرة تتراوح بين المثالية والسوداوية انطلاقا من تصورهم للمستقبل. إلا أن أحدا، أيا كانت درجة التفاؤل التي تحكم نظرته للعالم أصلا، لن يكون بمعزل دائم عن ربط أفكاره حول ما سيتحقق وما ستظهر للعيان سرابيته بمحطات من سيرة الرجل أثناء تجربته الماضية القصيرة قياسا إلى ما يعتقد أن تجربته الحالية ستعيشه.

الثلاثاء، 5 مايو 2009

رجـــل لا يــخـــــاف

بتاريخ 5|5|2005 كتب هذا النص، واليوم ينتخب الجنرال المقال.. رئيس الدولة المستقيل- الرئيس المنتظر
بتاريخ 5|5|2009
على رأس حزب سياسي هو "الإتحاد من أجل الجمهورية" ومن المتوقع أن يعود
للقصر الرئاسي بعد انتخابات 6|6|2009 المزمعة رئيسا للجمهورية، فهل يكون في طريقه
لأن يصبح "رجلا لا يخاف"، بهذه المناسبة ننشر النص لعل فيه عبرة وشيئا ما للتأمل.



وصل السنيور بريسيدانتي, إلى قاعة واسعة، جميلة .. تشي بالأبهة. ألقى بظهره إلى وسادة عريضة لأريكة فخمة ..وسادة تشبه الوسادة الخالية. وهو الآن يستعد لإتحاف ضيفه الذي وقف لمصافحته بعدما كان جالسا في إنتظار أن يخرج إليه من الحمام هو وحراسه..الآن سيتحفه بحكمة اليوم والعصر.

يبدو مطمئنا أكثر وقد ألقى بالكثير من مناوئيه في غيابات السجون و المنافي ..وأجرى تعديلات جوهرية على الجانب الذي يليه من الكرة الأرضية بمناسبة الحرب ضد الإرهاب..يبدو في هذه اللحظات بالذات أكثر غبطة, وربما راضيا بالإنتهاء من الترميمات التي كان يجري..و واثقا من أنه قام بها على أكمل وجه.

سوف لن يخجل لا من نفسه و لا من شعبه, عندما يلتقي بزملائه في "طاولة منهتاتن", سوف لن ينكس رأسه, لن يكون ذلك الرجل الذي غلبته إرادة شعبه و لن يلحقه عار كهذا. سوف يكون مرفوع الهامة وهو ينحني في الإجتماع القادم. سيتلقى التهاني , وقد يقلد العديد من شهادات الدكتوراه الفخرية..دكتوراه في الحكم الرشيد..دكتوراه في محبة السامية..وفي الرفق بالحيوان..و أخرى في السير على طريق العلمانية. ستشيد به منظمات دولية و قد يوصف بحمامة السلام الصحراوية , و أستاذ الهندسة الذي يمحو القاعدة من أشكاله البيكاسوية الغريبة.

ها هو الآن في بذلته الراقية الباريسية , و ربطة عنقه من متجر يهودي في نيويورك ..وهي مخططة بين الأزرق و الأزرق الفاتح, حذاؤه الأنيق الجديد من ماركة أسترالية مقرها في لندن..ألوان طيف و شواش تختزل تنوع الثقافات و وحدتها و يذكر بالتحالف في سياقات الحرب على كل شيء لأن الإرهاب كان يمكن أن يكون كل شيء كما يعرفه قطب هذا الزمان الوحيد.

في ديكور القاعة ..الشيء الوحيد الملفت للانتباه هو تلك المكتبة المصنوعة من حطب الغرغد و المذهبة..و هي تكتظ بكتب يبدو أنها قيمة.المكتبة تتألف من مجلدات كتبت عناوينها بماء الذهب و عند الاقتراب منها تتضح الحروف الصفراء..يبدو أنها حروف مقلوبة..إنها أبجدية لاتينية. المكتبة الأنيقة لا تحتوي سوى مؤلفات أجنبية بالفرنسية و الإنجليزية و العبرية. من بين الكتب يمكن أن تتبين عناوين من قبيل كتاب "الأمير" و "الكاماسوترا" ليس هناك على أية حال كتاب "الاستبداد" و لا وإن كانت هناك مسرحية "دون جوان" لموليير, وبعض كتب إعداد الوجبات.

يذكر أن القاعة تبدو عليها آثار ترميم طفيفة جرت لاستبدال بعض الأعمدة العملاقة التي تقوم عليها بأعمدة من النفط والغاز, فقد كانت مبنية من الحديد و النحاس, و يجري طلاء أجزاء من قواعدها بالذهب الأصفر ..أو اللون الذهبي على الأقل كما حصل مع قاعدة الحرس الوطني التي كانت ملجئا آمنا و بردا و سلاما في نار ليلة ذبيانية. كانت الثقوب التي خلفها الرصاص تعلق عليها مراسيم جديدة تغطيها في شكل لوحات يزين الجدران ..مرسوم بقانون المساجد..و محاربة الإسلاميين ..بالإضافة إلى مرسوم إنشاء وكالة لتشغيل الشباب أو شغلهم ..جنبا إلى جنب مع عشرات رخص التنقيب عن المعادن الثمينة لاستخراجها و تصديرها للضفة الغربية بصفة حصرية, بما في ذلك معادن الرجال النادرة لزيادة حركة سير الأموال..و السيولة النقدية في البنوك الوطنية و السويسرية على حد سواء ف" العالم قرية واحدة".

كانت بعض المنشورات الموضوعة على بعض المناضد المتناثرة في القاعة تحوي في أغلبها أهم الصيغ و القوانين التي سنت في أنحاء العالم خلال السنوات الأخيرة, و أغنت المكتبة القانونية بعشرات المواد التي صدرت بالتزامن في إطار حملة المعرفة للجميع, عفوا..أعني حملة محو الأمية..لا عفوا أيضا, أقصد مكافحة الإرهاب و الأصولية ـ وليست الوصولية ـ و الدعوة و الدعاة. أعتذر عن الغلط الأول والثاني, الظاهر أن العناوين تتشابه لم يعد يمكن التمييز في الحقيقة بين الكثير من التسميات و المسميات , ولا شك أن هناك أزمة في اللغة, ربما مؤداها العودة لنظام الازدواجية العتيق و إهمال العربية, أو هي أزمة مصطلحات وطنية و أخرى دولية..لا أريد الخوض في شجون الترجمة ولكن للأمانة لا بد من قول ذلك .

في بعض زوايا القاعة, صفائح مصقولة معلقة من الألمنيوم غير المخصب طبعا, لأن هذا ليس موسم اللقاح, و هذا الأمر متروك للرياح إلى أن تأذن به , و أغلب الظن أنها لن تفعل قريبا. المهم أن عليها رسوما..ليست رسوما جمركية..إنها رسوم من الماء و النار..تظهر الجماهير الغفيرة و هي تصطف في استقبالات لسيادته, لقطات من زياراته المختلفة و التي تقيم بملايين الدولارات.

هناك أيضا جداريات مؤطرة , بعضها زيتي تم تلوينه بمزج بعض المواد الغرائية و أخرى حافظة مع لترات الدم البشري..من كل الفصائل, و أخرى مائية صنعت بشكل مثير بفضل تطور صناعة الدموع..التي حفرت آبارها خصوصا في جنوب شرق البلاد, دموع الأهالي , و المعتقلين, و المتهمين, و حتى الخائفين من أن يوضعوا في قفص الاتهام تحت اسم المحاولة رقم واحد أو اثنين أو ثلاثة, أو 21 .كانت تلك الوجوه التي تظهر في هذه الجداريات ترمي بشرر و تضيء ببريق لا يشي إلا بوعيد على أهبة الانطلاق عبر طريق الأمل ..أو طريق الجامع ..أو كل الطرقات التي تؤدي إلى روما, لتقليم الأظافر التي تجرح وجه الأرض الذي كان طيبا و وقورا..و وجوه البشر, و حتى وجه التاريخ الذي تصنع ملامحه قيم خالدة. وعيد بتكسير سيقان العرش الديمقراطي, الملكي , القبلي, العشائري الذي يعجز أساطين منظري القانون الدولي و النظم السياسية عن تصنيفه.

في القاعة مرة أخرى, كانت الفواكه مرصوصة على صينية كبيرة ..رسمت في وسطها خارطة الوطن..و منارة شنقيط, و يذكر أنه في كل الحفلات و المآدب و سهرات العشاء الباذخة التي تقام على شرف الأجانب, تقدم أطباق من المأكولات من كل صنف في أواني من هذا النوع, و الجود بالنفس أقصى غاية الجود.

كان الطرف الآخر في المقابلة مع السنيور بريسيدانتى, و الحصرية إلى أقصى حد..حتى أنها حصرية عن البث و النشر, شخصا يحمل جنسية بريطانية و هو عربي مسلم من أصل عراقي و من أم أفغانية.. يعرف الجبال و الحجارة, و الحرارة التي تصل 50 درجة في أيام بغداد الصيفية. يعرف أيضا جبال الجليد الفارغة. وقد حصل على هذا السبق نتيجة خطأ فني .

انطلاقا من آخر التطورات الميدانية لم يحاول أن يبدأ بالسؤال ..و إنما بالتساؤل الذي تطبعه الشفقة.. لأن الرجل مقيم في هذا البلد منذ نعومة أظفاره, عن مغبة سلسلة الخطوات الأخيرة التي قام بها السيد الرئيس و عن آخر صيحات موضة التغيير لديه.

سيادة الرئيس, ألا تخامرك الخشية, و أنت تخطو هذه الخطوات, من السقوط في الهاوية. مثل هذه القرارات المتتالية كضربات حادة على طبل مشدود, ألا تدق لديك ناقوس الخطر, خاصة و أنها نشاز في آذان سامعيك فيما أظن؟

لا تخف علي إن كانت الشفقة هي ما يحرك لسانك بهذه الأسئلة الغريبة.

سيدي , ألا ترى أية بوادر لأزمة حادة في الأفق؟

مع ذلك سأجيبك, و لو أني لا أفهمك كفاية. السماء وردية تماما فيما أرى.

سيادة القائد, و هل يبعد لون الورد كثيرا عن لون الدم؟

في الحالة التي أحدثك عنها, نعم يبتعدان, لأن سياساتنا الحازمة تكفل وجود ذلك الحد الفاصل.

سيدي هل لي أن أعبر عن حزني عليك, إن كنت أرى أنك قد تسقط في مهوى الغرور؟

يا ولدي لا تحزن..لن أسقط ..وإذا سقطت سأصل واقفا, منتصبا, و لن تتكسر لي ركبة كما حدث ذات مرة.

سيدي ...؟

ها.. ها ..ها ..أنت طفل. أنا متمسك إلى أقصى حد, و متشبث, و إن تقطعت كافة الحبال و سقطت كما تزعم أو تتوهم, أو تنذر, من تحتي الشعب و كله معجبين سيتلقفونني بالأيدي و فوق الرؤوس و يصعدون بي.

سيدي, الهاوية قد تكون أعمق و أسوأ مما تتصور ؟

ليس مهما إن كنت تكلمت قبل أن أسمع أو انطلقت من غير ما أردته أنت .. عليك أن تتبين وجهة نظري أنا, هذه مهمتك أليس كذلك؟ و أنا أزعم بالمناسبة أن كل وعاء بما فيه ينضح. إن تاريخا عريضا من السقوط علمني أنه يصنع الارتفاع ..المفاهيم نفسها قد تكون مختلفة و تحقق الغاية ..يبدأ البعض من بداية البداية, و يبدأ آخرون من منتصف الطريق.. و النهاية هي النهاية..

عفوا, سيادة الرئيس..

لا عليك ..فقط أستغرب أن تحذرني من هاوية, و الهوى هواي.. و على خلاف كل الرجال و الواقعين في شباك ..أي شباك.. فأنا أملي شروطي على الهوى فكيف بالهاوية. السابقون في قافلتي علموني كيف لا أخشى شيئا كهذا. تجارب طويلة تلك التي أتكئ عليها في صياغة رؤيتي شخصية.. و سلالية: أجدادي للتذكير منهم تشاوشسكي.ربما لا نملك نفس المنظور, أنت ترى من جانب لأنك تحت, و أنا أرى من فوق لذلك تنعدم أبعاد الصورة الكارتوغرافية لدي. أعرف جازما أنك تحس بارتفاعي و تقدر خطورة السقوط بالنسبة لي .. لكن اطمئن أنا عندي عيوني التحتية .. التي توجد على نفس ارتفاعك عن مستوى البحر.. و معها البارومترات و مقاييس ريختر.. و كيسنجر. هل يمكن أن تتصور معي أنه في مرجع غير عادي لا يتكون من مستقيم عمودي.. و آخر أفقي يمكن أن تتبدل بعض المفاهيم.. أنت تعرف و إذا كنت لا تعرف سأخبرك بأن الوصول إلى القمة قد يكون بالوصول إلى القاع. ألا تتصور أن الوصول بالنسبة لمثلي إلى قاعدة الجماهير هو بحد ذاته الوصول إلى الارتفاع؟

سيدي, الموضوع...

أعرف أنه كانت تكتب البسملة أولا, و التاريخ الهجري.. ثم المادة و الموضوع, قبل كل شيء و كل درس.. ولكني لا ألقي درسا مع أن العصر تجاوز تلك الأشياء. ما ألقيته عليك هو مجرد تطمينات و أؤكد أن البقاء للأصلح.. حتى و إن جاء صالح .. البقاء قلت لك للأصلح.. و أعتقد أني أنا هو.

سيدي الرئيس.. هل تسمح؟

لا الرأي عندي واحد, حتى و إن سمحت لك.. و سمحت لك.. و سمعت كل الآراء ..آراء كل الناس, يبقى رأيي واحد كحزبي, و إن تعددت الأحزاب فالحزب واحد, و أنا لا آخذ سوى برأيي. الرأي كالرئيس واحد, قد يترشح أشخاص للرئاسة و لكن الرئيس يظل واحدا.. دعنا من التبديل, أليس عيبا, ألا يعني الاختلال..؟

سيدي ..لو ..؟

لو التي تفتح عمل الشيطان.. أم تنهي طموح الإنسان, أنا لا أتردد. و لا أجد ما يجعلني أتردد.. ليس هناك ما يرغمني على التراجع. إذا نزلت إلى أي عمل غير مرضي, فتلك إرادتي و أنا حر.. و إذا صعدت فتلك سياستي, ألست المسئول عن الشعب, أنا أدرى بسكة القطار..و إن بقينا في دوامة الإعصار.

ســ... و لكن الشعب؟

ماذا في وسع الشعب.. أنا أدرى.. و أنا ولي الأمرـ عليك بالإطلاع على الفتاوى في هذا الشأن ـ من الأقرب مني لسيف الذود عن قيمة.. و لكن السيف في نظري مكسور.. لنبني ناطحات السحاب.. و نبتعد عن مشاكل العوالم السفلى.. و الصفيح و القصدير.. و نبتعد عن السيوف و اللحى.. أنا لست دون كيشوت.. كما أنني لست أسامة بن لادن الذي يضحي بثروته و نفسه أنا براغماتي إلى حد ما.. و شاب موهوب أطمح للاحتراف في نادي باريس, اللاعب الجيد يعبر البحر الأبيض المتوسط.. أو الأطلسي.. ذلك هو البرهان القاطع و الدليل الوحيد على مقدراته.

سيدي.. لا تقل؟..

عندما تعيش عمرا من الحكمة.. فلن تتوانى في الإيمان بها.. أقصد أنك حين تمضي ـ لا قدر الله ـ عقودا, في كرسي الحكم, كلما قلت شيئا نشر على أنه حكمة.. وصارت أحاديثك "مجمع الأمثال".. و أصبحت كلماتك "العقد الفريد" تحت أي عنوان كان ذلك :"حكمة اليوم" أو العام أو السنين. عندها تصبح خطاباتك تاريخية كلها و دون استثناء, حتى أنه لن يكون لك واضحا ما هو غير تاريخي, لن تعرف غير الحكمة.. و لن تعرف لون الظلام مطلقا إن كان موجودا في الخارج.. لأنك تعيش عصر الأنوار.

لذلك و غيره.. أعتقد أني مخول لأن أتصرف ـ هكذا يقول المنطق ـ انطلاقا من قناعتي.. مادامت هي قناعة الشعب ـ لا فرق ـ ألم يقل الشعب دلك بنفسه.. ما المخوف إذن؟ ما البأس؟ إذا التقت الإرادتان و صفقت اليدان معا...

هل يهتز يقينك سيدي.. في صدق هذا الواقع.. و مصداقية العامة و ربما الحاشية ..و هل بت تعرف أنه واقع افتراضي؟

لا أنا لا أشك من هذه الناحية أطمئنك.. لا تعتقد بناء على ما قلت لك قبل قليل.. لا تعتقد بأنه اعتراف من أي نوع.. أنا لم أقل لك سرا و لكن هذا الأمر الذي قد تراه انتقاصا من ثقتي.. و شكا في قيمتي الحقيقية.. أنا لا أنظر للقضية من هذه الزاوية.. في نظري أن هذا الشيء واقع.. و لتكرار الأمر أصبح واقعا. فحتى و إن لم تكن أقوالي في الماضي حكيمة.. فالحكمة اليوم لا تعني سوى أقوالي, إن التعاريف و القيم يصنعها البشر.. أو هي تتولد لديهم نتيجة تراكم زمني.. أنا أعتقد أنه حتى و إن لم تكن كلماتي تحولت ذاتيا, أو أوتوماتيكيا إلى حكم, فإن أدمغة الشعب و عقلياته و مبادئ فكره هي التي تحولت لتصبح أقوالي بالنسبة لها حكما.. هكذا تقتضي حتمية و غريزة التكيف ..و حتى و إن كان الأمر بدأ نفاقا فقد أصبح واقعا و الواقع هو الحقيقة الوحيدة التي أتعامل معها.. و الواقع من جهة أخرى واضح جد واضح...

يقول ناعوم شومسكي : إذا استمر شيء معين يكرر على أنه واضح فالأحرى أن يكون هذا الشيء زائفا في شكل واضح ـ ما رأيك؟

يمكنك الاتصال ب"دروب النماء", يبدو أن القائل ألسني .. و أقترح عليك أن أسألك أنا بالمقابل: هل هذا الرجل معارض و هل يقيم بفرنسا أم بوركينافاسو؟

أعتقد أنه معارض و حسب .. و لكنه من أصل جمهوري.. لأنه يهودي..

هل قال شيئا ذا بال غير ما سبق و قلت؟

قال الكثير و الكثير و كتب في نقد أمريكا و غطرستها, و ضد الاحتلال الإسرائيلي, و عنف الآلة العسكرية الصهيونية ضد الفلسطينيين العزل .. و كذلك انتهاكاتهم المخجلة للإنسانية ككل و التي تمارس في أرض مقدسة , يحتمل أيضا أن يكون ضد وجود سفارة للكيان هنا.. من يدري؟

هل هو معتوه .. ألم يذهبوا به إلى "مصح عقلي" أو "سجن بيله" أو أبو غريب .. الظاهر أنه مجنون أو سيء الحظ, كيف يكون يهوديا و لا يحمد الله و يصمت؟

ليس بعد ..ليس في السجن حتى الآن, إنه ليس هنا بل في واشنطن..

و يعيش في واشنطن أيضا.. إنه "ملعوق"(منحوس).. كل هذه الامتيازات و يرفع عقيرته ضد وطنه.. ضد أمريكا و ابنتها المدللة ..محبوبة الجماهير التي نغازلها جميعا ..

سيدي الرئيس, دعني أعود لألعب دوري, أنا الذي عليه أن يسأل و أنت تجيب. و عودة لتساؤلك السالف قبل لحظات عن ما المخوف؟ و ما البأس؟ و أنت و الشعب كثرة أسماء فقط.. أقول : سيدي الشعب مارد نائم و في جسده منطقة محرمة, لو داعبته حتى بلمسها قد ينتفض, قد يلقي بك في الهوة, في قاع القاع.. قاع المهانة.. دعك من أي تصور عاطفي أو إيروسي... سيكون الأمر لا محالة دراماتيكيا.

ليس الشعب نائما حتى يستيقظ. إنه منوم ليس تنويما مغناطيسيا, بل يقع تحت تأثير منوم حديدي.. قبضة فولاذية. ولو افترضنا أنه كان نائما فقط بشكل طبيعي.. و قد توقظه منطقة ما حساسة أو محرمة كما تقول, فليس ذلك محتملا الآن.. فمداعبة تلك المنطقة جزئيا..شيئا فشيئا لوقت طويل جعلها تتعود.. لم يعد هناك ما يثيره. المسألة مسألة ترويض, و أنا تلميذ وفي لبافلوف. المنعكس الذي حدثتني عنه لطول ما تعود.. لم يعد لديه رد فعل. لقد خضع لسطوة الروتين بمرور الزمن, الآن يمكن أن تهوي عليه بالمطرقة.. و لا تنتظر ردا, انتهى زمن الردود و الخطابات العاطفية.. و معه زمن رد الفعل الثوري.

سيدي.. الحديد نفسه الذي تحدثت عنه .. ألا يفله الحديد؟

الحديد الذي أقصد لا يفله حديد "كدية الجلد", ليس ذلك ممكنا على الإطلاق, إنه مستورد من مناجم صحراء النقب التي تصنع منها السلاسل و القيود القوية, القيود التي يوثق بها العالم العربي و الإسلامي و حتى عوالم أخرى سوداء و بيضاء.. إنني واثق من كفاءته..

سيدي ..أليس هذا حراما؟

اسأل الفقهاء...

سيدي, كيف تخالف رغبة شعب سودك؟

الواقع أني عصامي :

نفس عصام سودت عصاما و علمته الفر و الإحجاما

أما عن مخالفة, فإن الاختلاف رحمة, ألم تسمع بذلك؟

سيدي.. أحذرك أن تكسر الحجارة الحديد .. وهو يصنع منها,و تنفصل القيود..

القيود قوية بشكل لا تتصوره, و نحن نختار أكثرها صلابة, من لدن معارض دولية تشارك فيها أهم الماركات العالمية, و على سبيل المثال لا الحصر أذكر "البنك الدولي" و "صندوق النقد الدولي", و أصبحنا نؤمن نقلها عبر أرقى شركات النقل ..خذ مثلا طيران "العال".

سيدي, لو مضيت معك في هذه التوكيدات, أليست معظم هذه القيود مادية, هل من سيطرة على الروح.. أعني هل تؤكد لي ذلك أيضا؟

الشباب, كما قد تكون تعلمت في المدرسة.. هو روح الأمة النابض.. ونحن وجهنا له اهتمامنا و رعايتنا, بذلنا كل جهد في الترفيه عليه, أنشأنا له الإذاعات و المحطات.. والمقاهي و الملاهي.. أعتقد أننا حققننا له الكثير من رغباته و فتحنا الباب أمام شهواته.. لذلك لنا دين في عنقه و أعرف أنه يعرف ذلك. أعتقد أننا خدمناه فكريا و ثقافيا و قمنا على تربيته على ثقافة السلام .. و اللغات الأجنبية.. و احترام "الديمقراطية". إنه شباب واع بضرورة النوم خصوصا في وقت الظهيرة.. ضربات الشمس مؤذية في البلاد الحارة.. و تحديدا في شهر يونيو و ما يليه من شهور و سنوات...

سيدي, ألا ترى أن رب ضارة نافعة.. و نافعة ضارة, و العكس بالعكس في دوامة لا يعرف أولها من آخرها و لا رأسها من ساقها؟ ألا ترى أن محو الأمية.. و نشر الكتاب و المعرفة قد تفتح آفاقا غير مأمونة.. و تسمح بتهريب أفكار و حتى منشطات؟

الكتاب خير جليس..و إذا ظل الإنسان معه أو ظل هو مع الإنسان قد ينسيه الدنيا و ما فيها ..وحتى صلاته. و الكتاب في النهاية ليس سوى موصل قد نحمله بما يفيد و يكرس ثقافة ليبرالية, بل إنسانية بل نسيانية, ينسى بها المرء واقعه .. ويعيش في خيال و ينسى نفسه, و الكتاب فوق ذلك يمكن أن نصنعه من الإسمنت المسلح.. و الحديد.

سيدي, هل أنتم واثقون من تحقيق مشاريعكم المدرة؟

(عفوا.. على لكنتي العربية الفصحى.. التي تنطق الضاد في كل ما هي).

نحن كذلك بالتعاون البناء مع شركائنا..

هل الشراكة ضرورية في كل شيء؟

أخبرك أن التداوي بوصفات معينة نستوردها كغيرنا من مراكز راقية في أنحاء العالم هو أمر ندفع فيه الغالي و النفيس.. لأن مثل هذه الوصفات تؤمن ضمان المصلحة العليا.. أقصد العليااا.. المصلحة المشتركة المزدوجة.. التي تقطف ثمارها القوى العظمى و نقطف نحن كرسيها و الكثير من قطوفها الدانية و النائية. و عندما يقتضي الأمر خلط تلك الوصفات ببعض الأعشاب البلدية و حتى "الكتب" و التعاويذ.. لا نتردد في فعل ذلك. نحن رهن إشارة الطبيب.. أليس ذلك هو السلوك المدني؟

الالتزام بالتعليمات الطبية سلوك مدني, و نحن تخلينا عن البزة, و عن الحكم العسكري.. ألا نكون مدنيين..

هل أنت ميكافيلي؟

لقد كان ذلك المفكر النصوح سيرياليا شيئا ما ..أنا هو الميكافيريالية.

هل أنت سعيد بنجاح مهمتك؟

و فخور بملايين القصائد و الأناشيد التي قيلت في مدحي.. الذين افتخروا بي في أشعار خالدة كانوا على صواب.. لأنهم لم يسرقوا الحقيقة..

سيدي, هل كنت تؤمن بالبعث؟

فقط كنت أعتقد أنه لن يدوم طويلا في الحكم.. لأنه يسبح ضد التيار, و نحمد الله أننا عرفنا خطأ ذلك ..و معنا صاحب النظرية العالمية الثالثة رغم بلادته.. لقد تعلمنا الإبحار مع البحر.. خاصة و أننا على الشاطئ .. على شاطئ الأطلنطي.. حتى أننا اشترينا زوارق عالية الجودة من دولة إسرائيل الناشطة في النقل, و في البحر و الجو.. وبين طبقات الأرض.. بحكم ارتباطها الوثيق من جهة بخطوط الضغط العالي.. و وجودها في الأرض قريبا من أرض الواقع و التطورات اللحظية.

سيدي ..هل تنوي الاستمرار؟

النية لنا و القضاء لله.. و أرى أنها مسؤوليتنا التي لن نتخلى عنها على قيد الحياة.. و حقنا الذي لن نسلب.. هذه هي الأجندة الثابتة.

على ذكر القضاء سيدي.. هل شاهدتم يوما مسلسل "القضاء في الإسلام"؟

عندما كان يبث كنت مشغولا بالقضاء على الفقر.. و أتمنى أن أجد وقتا للقضاء في الإسلام.. أعرف فقط أن القضاة الإنجليز يضعون قلنسوات بيضاء .. تذكرني بقلنسوة يعتمرها الروس..و منهم ستالين.. لقد أعجبتني مرة فاشتريت إحداها لا أزال أحتفظ بها.

هل حققتم عدالة اللقمة .. أثناء مسلسل القضاء على الفقر؟

هذا الأمر غير مطلوب ..ربما يخالف الدستور.. ليست المساواة في شعار الجمهورية كما تعلم.. المهم هو رفع المستوى المعيشي للفقراء و الأغنياء بالمحافظة على التناسب القائم ..هذه هي الرياضيات الاجتماعية.

قد يقول الشعب أن هذا غير مقبول؟

الرعاء قلت لك ليس لهم قول ..و ما قالوا سوى ما سمعنا و هو أنهم يحمدون و يشكرون جهودنا.

سيدي ..أخشى أن تكون الصورة غير دقيقة ..أو سحبت في دقيقة, بعض المصورين يتسرعون ..و يجتزئون البانوراما.. و يعممون أحيانا أخرى بورتريه صغير و يكبرونه جاعلين منه بانوراما للمشهد ككل.

الخونة وحسب يفعلون ذلك.. لأنهم يحاولون أن يبثوا رؤى غير موثوقة.. لا تملك دليلا ..بروبغندا محضة, لذلك يزورون الدليل أو يضخمون العينة المكروسكوبية. لكنهم لا يصدقون. نحن لا نحتاج لشيء كهذا ..لأننا ببساطة لائحة الخيار..و القرار.. و القدر.. و الواجب الوطني يقتضي التمسك و الطاعة, و الابتعاد عن البلبلة. إن ولي الأمر في مأمن من تقلبات السياسة.. هكذا جرى العرف المعاصر. أما أن يكون من طرازي و يفهم مثلي كيف يدير حكما رشيدا, فهذا شيء رائع و مطمئن..

أحيانا أستغرب أن يحكم رجل.. يا سيدي ثلاثة ملايين نسمة و يتخذ قرارات تنافي طموحاتهم و قناعاتهم و منطلقاتهم حتى.. أية كاريزما و أية حنكة ؟

إن أحد هذه الملايين الثلاثة.. هو المليون شاعر .. المليون الثاني هو بين الذين يتبعون الشعراء.. و عشاق الطرب.. و متذوقو الفن و القصيدة .. ويمكن تجنيد هذين المليونين ضد المليون الثالث.. كفانا الله شر الذين لا يطربون.. و شر المتطرفين . و هذه كما ترى في النهاية معادلة بسيطة.

خلف هذه السياسة لا بد أن ثمة مبدأ قوي تستند إليه هذه الدبلوماسية ..و لا يسمح لها بالانهيار تحت أية ظروف.. فهل من خلاصة في هذا الصدد لتجربتكم.. سيدي الرئيس؟

إذا كان لا بد .. فهي أنني رجل لا يخاف..

سيدي الرئيس.. شكرا.. هذه هي الشجاعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا النص هو شهادة على زمن - ولا يزعم كاتبه أنه قصة قصيرة - وهو في النهاية رأي كتب بهذه الطريقة. فقط أذكر بمقولة الكاتب النيجيري الحائز على جائزة نوبل وول سوينكا في هذا الصدد: "لو لم يكن هناك سوى جنس أدبي واحد، أو طريقة تواصل لغوية واحدة، لأصابنا الفناء بفعل الضجر والملل".

الثلاثاء، 7 أبريل 2009

سقوط الشعب الممتحن


بيان حول “التصحيح”

لجنة الامتحانات والانقلابات المقدّرة (من شر القدر[1]).
في السادس أغسطس الماضي، أقدمتم على إجراء "التصحيح". نحن لا نشكركم، فأنتم تشكرون أنفسكم بما فيه الكفاية وزيادة (افتحوا التلفزيون). لكن هذا يعني أن الامتحانات أيضا قد جرت. بالمناسبة نحن نعذركم، من ناحية اختيار التوقيت فربما كان ظنكم أنه نهاية "السنة السياسية" وكان لابد من إجراء امتحان خاصة بعد سنة بيضاء انتقالية. بيد أن الشعب المسكين، وكله حزن وخجل، يريد أن يرفع إلى علمكم بعض شكواه، ويرفق لكم بعض التوضيحات التي يراها ضرورية:

المسكين يريد، وكله أسف، أن يخبركم أنه سقط. يريد أن يقول أنه رسب.
أولا، بوده أن يلفت انتباهكم، إلى النتائج الكارثية التي ترتبت على "تصحيحكم" المتعسف، بعد ذلك سيضع بين أيديكم، حقائق لو كنتم تعرفونها أو تؤمنون بها ما كنتم لتأذوا المسكين بهذا الشكل، وتعاملوه على نحو ما سبق.

أيتها اللجنة المجلس:
لقد وجد الشعب نفسه، بعد التصحيح صفر اليدين من حلم طالما راوده وهو أن يحكم. هو يعرف أنكم في اللجنة ربما تحضرون الآن لإقناعه بأنكم لا تحكمونه بل تقودونه وحسب، فمثل هذا الفكر ربما يكون "ملك الملوك والمنظرين" ترك بعضه لديكم. ولكن "الأخ" الشعب يعلمكم أنه ليس أغبى من "الأخ القائد"، ورغم رسوبه فإنه يفهم في كثير من المسائل، والظروف وحدها، كما سيوضح لاحقا، هي ما جعله يسقط ويرسب. بصراحة لقد تركت هذه الخسارة وحدها في نفس الشعب جرحا غائرا لا يندمل. فالمتعة التي كاد أن ينعم بها، تعد اليوم من ألذ فواكه الدنيا وأطيبها وتدعى "الديمقراطية". وبالرغم من أن منبتها الأصلي، كان في بلاد الإغريق النائية - زمانا أكثر منها مكانا- إلا أنها تستنبت وتزهر وتثمر في الصحراء وفي حضن أية تربة أخرى، ولا تفقد طعمها ومذاقها إذا سقيت بماء الحياة والمكرمات.

من جهة أخرى، فإن الشعب بعدما أجال الطرف ونظر يمنة ويسرة، مقلبا أوضاعه المادية والمعنوية لم يستطع أن يقنع نفسه بغير الحقيقة المرة، ولم يجد بمقدوره التعالي على واقعة الرسوب المؤلمة. وهو يعترف، بعد تفحص كل النتائج التي حصل عليها، ويخبر نفسه ويخبركم أنه سقط. كما يشكو بشكل خاص، مبديا استغرابه، من النتيجة الفضيحة التي حصل عليها معكم في مادة الاقتصاد. لقد سمعكم تقولون أن هذه المادة بالذات، لا خوف منها ولا حزن على دروسها التي كانت تقدم من طرف الجهات المانحة. وظن أنها ستكون آخر شيء يمكن أن يخشى منه، حتى إذا به – بعيدا عن الأوهام- يعاني مشاكلها المزمنة، ويتجرع مرارتها الزائدة بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية.

الشعب يعرف أنه صبور، لكنه يعرف أيضا حدود الصبر. وحيث لا يمكنه السكوت على ضياع مستقبله، فإنه يوضح كذلك أهمية أن يكون هناك حل وحل استعجالي، حتى وإن كنتم لا تحبذون هذه الكلمة. وهو بالإضافة إلى مادتي "الحكم الديمقراطي" و"الاقتصاد الجزئي الكلي" يحز في نفسه ما يرى من نقاط متدنية يسبقها اسمه على لائحة "الشفافية" و "القضاء على الفقر" وغيرها الكثير. بناء عليه، لا يسعه إلا أن يشدد على العار الذي لحقه، والورطة التي وضعتموه فيها، مؤكدا أنه لولا الطريقة والظروف التي اكتنفت هذا "التصحيح" المجحف، وعدم شرعية الامتحان الذي خضع له، لما وقع في هذا الحرج الذي يلازمه اليوم في ظل أسرته الدولية.
كما يؤلمه كثيرا، أنه خيب ظن الصحف وظن كل الذين توسموا فيه النبوغ، وتوقعوا أن يكون مثالا يحتذى ويشبه سعيد ذلك التلميذ المجتهد الذي لا يسبقه أحد، والذي يطلس السبورة أولا، ويمحو ظلام عهود الأنظمة الاستبدادية. وبقدر ذلك يزعجه أن يتشفى فيه أعداءه، وينجحون في السخرية منه في عقر داره.

إعادة “التصحيح”.. تصحيح الوضع

أيتها اللجنة المجلس:
تلك كانت بعض النتائج التي حصل عليها التلميذ المسكين المدعو الشعب، وما يترتب عليها من آثار حسية ونفسية يواجهها اليوم بصبر ينفد. وهو يريد التنبيه إلى أن الأسباب كثيرة، ويسرد هاهنا ثلاثة منها يعتقد أنها تقوض مشروعية الامتحان من الأساس:

1- المدرسة التي كان الشعب قد دخلها قبيل "التصحيح" هي مدرسة حرة مدنية ذات نظام داخلي ديمقراطي، و"السنة السياسية الديمقراطية" يمكن للتلميذ خلالها أن يراجع ويناقش. كما أنه في مدرسة كهذه تتاح فرصة نادرة للطلاب تتمثل في إمكانية معاقبة الأساتذة والمصححين. والامتحانات في إطارها تجري من كل خمس سنوات على الأقل، ولا "يصحح" الأساتذة فيها بأقلام رصاص البنادق والمدافع .

2- من غير المعقول أن يدرس المرء في مدرسة كتلك، لتجرى له الامتحانات ويصحح له في مدرسة "الأركان العسكرية"، حيث الاختلافات بين المدرستين تبلغ حد التناقض الصارخ. يجدر بالذكر أنه في "المدرسة السياسية العسكرية" لا تخضع الأمور لنظام زمني، فقد تطول حتى تبلغ عشرين سنة مما نعد، وقد تقصر حتى لا تتجاوز يوما أو يومين. وهذا ما جعل الشعب يصبح نافرا منها، فهي إما مملة طويلة عريضة أو خاطفة لا يمكنه أن يركز خلالها، خاصة بعدما جرب المدرسة النظامية-الحرة.

3- يقر الشعب أنه لم يتم إخطاره قبل "التصحيح"، ونقل قسرا إلى مدرسة لا يسعى للمتابعة فيها. لذلك فإنه يتسائل في أعماقه وبأعلى صوته هل يتعلق الأمر بتصحيح أم بعقاب قاس يخضع له؟.

هكذا فإن الشعب الفقير إلى رحمة ربه، والذي أحب مدرسته "الديمقراطية" وسعى لها سعيها، يصدر للجنة الامتحانات والانقلابات بيان التنديد هذا وملتمس الشجب ( ويتمنى من الله أن تسمعه، فهي لم تنصت من قبل لغير بيانات المساندة) موجها لها ندائه ومطالبته بضرورة "إعادة التصحيح" بل تصحيح الوضع برمته. الشيء الذي يترتب عليه:
ـ حل اللجنة نفسها، كما عينت نفسها.
ـ عودة الشعب إلى مدرسته، وإلغاء "التصحيح" الذي لم يخرج منه بنتيجة مرضية.
ـ الاعتذار له ولأساتذته في المدرسة المدنية.
ـ " توبة" اللجنة ومصححيها، مع التأكيد المزدوج على نية عدم العودة.

يبلغ الشعب سلامه إلى من سيهتم لأمره.



- معجم الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية، كل الصفحات.[1]

السبت، 31 يناير 2009

لك الله يا غزة.. لك الله يا عزة


وقف صلاح الدين من قبل، على أبواب عكا مودعا إياه بمثل هذه الكلمة، وقد أعياه أن يقتحم حصنها ويطهرها من الغاصبين. ولكن يا ليت لنا أن نودع بمثل وداعه، فهو لم يمض عنها إلا ليعود. وعندما سنحت الفرصة كان على أعتاب المدينة الجميلة من جديد، وليدخلها فاتحا منتصرا هذه المرة على أعدائه الصليبيين. لكننا نقولها من موقف مختلف، موقف يكاد يغيب فيه أي بصيص أمل، خاصة من جانب حكام العرب الذين يخذلون شعوبهم، وقد فقدوا كل عصب يربطهم بواقع أمتهم.


لا شك أن الهمجية الإسرائيلية، وبشاعة البطش اليهودي في غزة، وما يقابلهما من صمت رسمي عربي، يدعو إلى شعور مأساوي بالضعف والإحباط. والعرب دون كل المسلمين، يتحملون أكبر وزر، وعليهم أكبر المسؤوليات، فكم من مرة زعموا أن هذه قضيتهم، وأكدوا أن هؤلاء الذين يقتلون في فلسطين عامة أشقاؤهم. ومع ذلك فنحن اليوم لا نسمع من كثير من قادتهم إلا همسا، بل لا نسمع إلا صمتا. فهل لم تبلغ المأساة "حد الكتلة الحرجة" التي تنطلق ألسنتهم معها؟.

الحق أن الشعوب العربية، والإسلامية، وهي لا تستحق منا أن نغمطها حقها، صرخت بملء الحناجر، وتأثرت إلى أقصى حد، وانفعلت، لكنها في وادي وأصحاب أمرها الذي بيدهم أخذ قراراتها في وادي. بيد أن هذا الانفعال وحده، على عكس ما يروج الكثيرون اليوم، ليس عيبا، ولعله دليل أولي مطمئن، ينبئنا أن ثمة حس ما يزال هناك، وثمة قلب ما زال ينبض. والانفعال هو أول الغيث، ومبتدأ الخطو إلى موجات الفعل والمد الذي لا يقاوم.

سيقولون أن العواطف والمشاعر لا يمكن أن تساعد أمة في اجتياز وضع صعب كهذا الذي تعيش أمتنا. ويقولون أن العقل والحكمة وحدهما دليل النجاة وسبيل السلام. ونقول أن غياب هذه العواطف هو ما يجعل حكامنا بعقولهم الإلكترونية التي لا تحسب إلا الأرباح الخاصة ينظرون إلى كل المشاهد الفظيعة التي تظهر فيها غزة ببلاهة آلية، وعدم إحساس يدعو للشفقة، وكأنهم غير معنيين بشيء مما يحدث. ونقول أن طغيان هذه المشاعر الجياشة، وهذا الإحساس العفوي لدى جماهير شعوبنا الغفيرة بكل ما يتعرض له أخوتهم، يمكن أن يراهن عليه في إنجاز الكثير والكثير، وليس كل ما ينبع عن العاطفة تافها وسقيما. بل إن العقل كما يروج له ليس إلا عقلية الذل والانبطاح، وما الواقعية التي ينادى بها سوى تكريس الأمر الواقع والقبول بكل أنواع الإهانة تحت طائلة "الوضع الراهن لا يسمح".

نعم، هكذا تبدأ الحركات. ومع توالي التظاهر والحملات الشعبية، ستجد أنظمة عديدة في منطقتنا نفسها تغرق تحت الأحذية التي سيرميها المتظاهرون الغاضبون، المصدومون، المفجوعون مما تفعل آلة القتل الإسرائيلية، ومما تقوم به من مجازر ألوية الإبادة الصهيونية، ومما يرين عليهم من صمت الحكام الذين تتسع الهوة بينهم وبين شعوبهم يوما بعد يوم، ويفصلهم ومجتمعاتهم جدار كثيف من سوء الفهم واختلاف الرؤى وغياب الارتباط.

هذه، لا أنكر شيئا من ذلك، ربما مجرد أماني، وربما مجرد عزاء شخصي، وربما مجرد بحث عن بديل للبكاء. ولا غرو، ففي عتمة هذا الليل البربري نحن في حاجة ملحة لأمل لا ينطفئ، ونحن في أمس الحاجة إلى عزاء يكون برفع الظلم والانتقام لنا، ونحن نبحث عن شيء أكبر من البكاء الذي طلقته النساء، حتى الشواعر منهن. هل تذكرون شاعرة فلسطين فدوى طوقان تقول:


يمينا بعد هذا اليوم لن أبكي

أحبائي، مصابيح الدجى،

يا إخوتي في الجرح

ويا سر الخميرة يا بذار القمح

يموت هنا ليعطينا

ويعطينا

ويعطينا

على طرقاتكم أمضي

وها أنا بين أعينكم

ألملمها وأمسحها دموع الأمس.

نحن مرة أخرى، ليس لنا اليوم أن نبكي غزة، وما لنا إلا أن ننفعل بشكل إيجابي مع هذه الشعوب الخارجة إلى الشوارع، والخارجة قريبا إن شاء الله على أنظمة الفساد والذلة والهوان، في طريقها إلى رفح وفي طريقها لعبور المجهول إلى المعلوم: إلى الشهادة أو النصر. وقبل هذا وذاك، ومعه ما لنا إلا أن نكرر "لك الله يا غزة"، ونحن على يقين راسخ بأنها مرادفة ل"لك الله يا عزة". ذلك أن غزة اليوم، أشبه بآخر حصون العزة والصمود، تلك الحصون التي ما فتئت تنهار تحت زحف موت بطيء اسمه الاتفاقات والمعاهدات ومشاريع السلام البائس، وموت سريع تصبه طائرات الحرب اليهودية.

هذه هي قصة الجرح الغائر في الكرامة العربية والنخوة الإسلامية، قضية فلسطين، جرح الإنسان العربي والمسلم الذي لا يلتئم، ولا يراد له ذلك، وإلا فكيف يظل النظام العربي ومن ورائه الدولي يذر الرماد في العيون ويسكب المهدئات الرخيصة على موضع الألم الذي لا بد له من جراحة تزيل كيان إسرائيل المزروع، وتعيد الحق لذوي الحق، وتنتزع بالقوة ما أخذ بالقوة.

إن المرثية التي يمكن أن تطول حتى تصبح الأعظم في التاريخ، ليس شهداء غزة هم يستحقها، بل الكرامة العربية المضرجة بدمائها والمسجاة على طاولات المفاوضات والقمار السياسي المهين. شعب يباد، ويبحثون له بين الكلمات العابرة، والتوقيعات خشنة الخط عن مركب نجاة يصنع في أنا بوليس أو مجلس الأمن، فكم من الوقت يمكن أن ينتظر الجرحى، وكم من الوقت سينتظر مدمن الدم اليهودي دون أن يطلق قنبلة، وكم من الوقت يستغرق صناعة مركب لا يراد له أن يصنع.


لا منطق إلا ويسوف هذا المنطق: منطق المبادرات العربية والشعارات التافهة، ولغة الحوار التي لا تعبر إلا عن فكرة واحدة اسمها الاستسلام ورفع الرايات البيضاء. ويأبى العقل السليم أن يكون الرد المناسب على القذائف والقنابل المنشطرة والعنقودية غصن زيتون ويدا ممدودة ب"خرائط الطرق" والأوراق المتخمة بالأفكار المثالية والحلول السحرية السخيفة.

واليوم، إذا كانت وحدة الزمن التي نعد بها في انتظار أن يتحرك هؤلاء الساسة المنهزمون في قرارات أنفسهم هي الدم، ها نحن منذ ثلاثة آلاف جريح و خمسمائة شهيد نحبس أنفاسنا وننظر بعين الألم والحزن والغضب والثورة إلى غزة. بينما ننظر بعين الريبة والاحتقار والخجل والانتظار والخيبة إلى أولئك السابحين في فلك وهم العلاقات الدولية وكيمياء شرعية الأمم المتحدة الزائفة. أولئك الذين يشترون الأسلحة بالمليارات لتصدآ في مستودعاتها، في حين يسيل شلال دماء إخوتهم وهم يتفرجون. يتذرعون بمعاهدات كامب ديفيد ووادي عربة، ويثقون في اتفاقات جنيف وواشنطن إلى ما إلى ذلك من أسماء أجنبية وعربية، ولا يفكرون ولو للحظة في أن يدوسوا أيا منها، وقد داستها القنابل العابرة إلى صدور العزل من إخوتهم في كل مكان، بل داستهم هم أنفسهم.

فلك الله يا غزة، ولك الله يا عزة.

لك الله، ولك الضمير العربي والمسلم الحي. لك الشعوب المسحوقة المكبلة بقيد النظام العربي، المحاصرة بسجن النظام الدولي. فلك الفوضى التي سيثيرونها، إذا كان النظام بهذا السوء. ولك التطرف إذا كان الاعتدال بهذا الثمن.

من الآن لا تثقي في هذه النسخة المعدلة جينيا من الساسة الخونة، لا تثقي في الأنظمة العاجزة لأنها لا تمتلك الإرادة، المتلكئة لأنها لا تمتلك الجرأة، النائمة لأنها تفتقد البصيرة، والخانعة لأنها لا تجد في قواميسها معنى العزة. اصبري وصابري، وانتظري فقط أن تتسع هبة شعوبنا المقهورة، وهم قاب قوسين ويكونون على أبوابك، ولك الله يا غزة.

وغدا نلتقي. . . عندما تنتصر إرادة الشعوب على إرادة الطغاة.