نقطة نظام.. نقطة فوضى

إنني أفتح نوافذ غرفتي لتدخل إليها الرياح من كل جانب، لكنني لا أسمح لأية ريح بأن تقتلعني من جذوري. المهاتما غاندي
إن الأضداد لتتفق، وإن أجمل انسجام هو ما يتولد عن الإختلاف. هيراقليطس

السبت، 31 يناير 2009

لك الله يا غزة.. لك الله يا عزة


وقف صلاح الدين من قبل، على أبواب عكا مودعا إياه بمثل هذه الكلمة، وقد أعياه أن يقتحم حصنها ويطهرها من الغاصبين. ولكن يا ليت لنا أن نودع بمثل وداعه، فهو لم يمض عنها إلا ليعود. وعندما سنحت الفرصة كان على أعتاب المدينة الجميلة من جديد، وليدخلها فاتحا منتصرا هذه المرة على أعدائه الصليبيين. لكننا نقولها من موقف مختلف، موقف يكاد يغيب فيه أي بصيص أمل، خاصة من جانب حكام العرب الذين يخذلون شعوبهم، وقد فقدوا كل عصب يربطهم بواقع أمتهم.


لا شك أن الهمجية الإسرائيلية، وبشاعة البطش اليهودي في غزة، وما يقابلهما من صمت رسمي عربي، يدعو إلى شعور مأساوي بالضعف والإحباط. والعرب دون كل المسلمين، يتحملون أكبر وزر، وعليهم أكبر المسؤوليات، فكم من مرة زعموا أن هذه قضيتهم، وأكدوا أن هؤلاء الذين يقتلون في فلسطين عامة أشقاؤهم. ومع ذلك فنحن اليوم لا نسمع من كثير من قادتهم إلا همسا، بل لا نسمع إلا صمتا. فهل لم تبلغ المأساة "حد الكتلة الحرجة" التي تنطلق ألسنتهم معها؟.

الحق أن الشعوب العربية، والإسلامية، وهي لا تستحق منا أن نغمطها حقها، صرخت بملء الحناجر، وتأثرت إلى أقصى حد، وانفعلت، لكنها في وادي وأصحاب أمرها الذي بيدهم أخذ قراراتها في وادي. بيد أن هذا الانفعال وحده، على عكس ما يروج الكثيرون اليوم، ليس عيبا، ولعله دليل أولي مطمئن، ينبئنا أن ثمة حس ما يزال هناك، وثمة قلب ما زال ينبض. والانفعال هو أول الغيث، ومبتدأ الخطو إلى موجات الفعل والمد الذي لا يقاوم.

سيقولون أن العواطف والمشاعر لا يمكن أن تساعد أمة في اجتياز وضع صعب كهذا الذي تعيش أمتنا. ويقولون أن العقل والحكمة وحدهما دليل النجاة وسبيل السلام. ونقول أن غياب هذه العواطف هو ما يجعل حكامنا بعقولهم الإلكترونية التي لا تحسب إلا الأرباح الخاصة ينظرون إلى كل المشاهد الفظيعة التي تظهر فيها غزة ببلاهة آلية، وعدم إحساس يدعو للشفقة، وكأنهم غير معنيين بشيء مما يحدث. ونقول أن طغيان هذه المشاعر الجياشة، وهذا الإحساس العفوي لدى جماهير شعوبنا الغفيرة بكل ما يتعرض له أخوتهم، يمكن أن يراهن عليه في إنجاز الكثير والكثير، وليس كل ما ينبع عن العاطفة تافها وسقيما. بل إن العقل كما يروج له ليس إلا عقلية الذل والانبطاح، وما الواقعية التي ينادى بها سوى تكريس الأمر الواقع والقبول بكل أنواع الإهانة تحت طائلة "الوضع الراهن لا يسمح".

نعم، هكذا تبدأ الحركات. ومع توالي التظاهر والحملات الشعبية، ستجد أنظمة عديدة في منطقتنا نفسها تغرق تحت الأحذية التي سيرميها المتظاهرون الغاضبون، المصدومون، المفجوعون مما تفعل آلة القتل الإسرائيلية، ومما تقوم به من مجازر ألوية الإبادة الصهيونية، ومما يرين عليهم من صمت الحكام الذين تتسع الهوة بينهم وبين شعوبهم يوما بعد يوم، ويفصلهم ومجتمعاتهم جدار كثيف من سوء الفهم واختلاف الرؤى وغياب الارتباط.

هذه، لا أنكر شيئا من ذلك، ربما مجرد أماني، وربما مجرد عزاء شخصي، وربما مجرد بحث عن بديل للبكاء. ولا غرو، ففي عتمة هذا الليل البربري نحن في حاجة ملحة لأمل لا ينطفئ، ونحن في أمس الحاجة إلى عزاء يكون برفع الظلم والانتقام لنا، ونحن نبحث عن شيء أكبر من البكاء الذي طلقته النساء، حتى الشواعر منهن. هل تذكرون شاعرة فلسطين فدوى طوقان تقول:


يمينا بعد هذا اليوم لن أبكي

أحبائي، مصابيح الدجى،

يا إخوتي في الجرح

ويا سر الخميرة يا بذار القمح

يموت هنا ليعطينا

ويعطينا

ويعطينا

على طرقاتكم أمضي

وها أنا بين أعينكم

ألملمها وأمسحها دموع الأمس.

نحن مرة أخرى، ليس لنا اليوم أن نبكي غزة، وما لنا إلا أن ننفعل بشكل إيجابي مع هذه الشعوب الخارجة إلى الشوارع، والخارجة قريبا إن شاء الله على أنظمة الفساد والذلة والهوان، في طريقها إلى رفح وفي طريقها لعبور المجهول إلى المعلوم: إلى الشهادة أو النصر. وقبل هذا وذاك، ومعه ما لنا إلا أن نكرر "لك الله يا غزة"، ونحن على يقين راسخ بأنها مرادفة ل"لك الله يا عزة". ذلك أن غزة اليوم، أشبه بآخر حصون العزة والصمود، تلك الحصون التي ما فتئت تنهار تحت زحف موت بطيء اسمه الاتفاقات والمعاهدات ومشاريع السلام البائس، وموت سريع تصبه طائرات الحرب اليهودية.

هذه هي قصة الجرح الغائر في الكرامة العربية والنخوة الإسلامية، قضية فلسطين، جرح الإنسان العربي والمسلم الذي لا يلتئم، ولا يراد له ذلك، وإلا فكيف يظل النظام العربي ومن ورائه الدولي يذر الرماد في العيون ويسكب المهدئات الرخيصة على موضع الألم الذي لا بد له من جراحة تزيل كيان إسرائيل المزروع، وتعيد الحق لذوي الحق، وتنتزع بالقوة ما أخذ بالقوة.

إن المرثية التي يمكن أن تطول حتى تصبح الأعظم في التاريخ، ليس شهداء غزة هم يستحقها، بل الكرامة العربية المضرجة بدمائها والمسجاة على طاولات المفاوضات والقمار السياسي المهين. شعب يباد، ويبحثون له بين الكلمات العابرة، والتوقيعات خشنة الخط عن مركب نجاة يصنع في أنا بوليس أو مجلس الأمن، فكم من الوقت يمكن أن ينتظر الجرحى، وكم من الوقت سينتظر مدمن الدم اليهودي دون أن يطلق قنبلة، وكم من الوقت يستغرق صناعة مركب لا يراد له أن يصنع.


لا منطق إلا ويسوف هذا المنطق: منطق المبادرات العربية والشعارات التافهة، ولغة الحوار التي لا تعبر إلا عن فكرة واحدة اسمها الاستسلام ورفع الرايات البيضاء. ويأبى العقل السليم أن يكون الرد المناسب على القذائف والقنابل المنشطرة والعنقودية غصن زيتون ويدا ممدودة ب"خرائط الطرق" والأوراق المتخمة بالأفكار المثالية والحلول السحرية السخيفة.

واليوم، إذا كانت وحدة الزمن التي نعد بها في انتظار أن يتحرك هؤلاء الساسة المنهزمون في قرارات أنفسهم هي الدم، ها نحن منذ ثلاثة آلاف جريح و خمسمائة شهيد نحبس أنفاسنا وننظر بعين الألم والحزن والغضب والثورة إلى غزة. بينما ننظر بعين الريبة والاحتقار والخجل والانتظار والخيبة إلى أولئك السابحين في فلك وهم العلاقات الدولية وكيمياء شرعية الأمم المتحدة الزائفة. أولئك الذين يشترون الأسلحة بالمليارات لتصدآ في مستودعاتها، في حين يسيل شلال دماء إخوتهم وهم يتفرجون. يتذرعون بمعاهدات كامب ديفيد ووادي عربة، ويثقون في اتفاقات جنيف وواشنطن إلى ما إلى ذلك من أسماء أجنبية وعربية، ولا يفكرون ولو للحظة في أن يدوسوا أيا منها، وقد داستها القنابل العابرة إلى صدور العزل من إخوتهم في كل مكان، بل داستهم هم أنفسهم.

فلك الله يا غزة، ولك الله يا عزة.

لك الله، ولك الضمير العربي والمسلم الحي. لك الشعوب المسحوقة المكبلة بقيد النظام العربي، المحاصرة بسجن النظام الدولي. فلك الفوضى التي سيثيرونها، إذا كان النظام بهذا السوء. ولك التطرف إذا كان الاعتدال بهذا الثمن.

من الآن لا تثقي في هذه النسخة المعدلة جينيا من الساسة الخونة، لا تثقي في الأنظمة العاجزة لأنها لا تمتلك الإرادة، المتلكئة لأنها لا تمتلك الجرأة، النائمة لأنها تفتقد البصيرة، والخانعة لأنها لا تجد في قواميسها معنى العزة. اصبري وصابري، وانتظري فقط أن تتسع هبة شعوبنا المقهورة، وهم قاب قوسين ويكونون على أبوابك، ولك الله يا غزة.

وغدا نلتقي. . . عندما تنتصر إرادة الشعوب على إرادة الطغاة.