
بينما القوم يتجرعون خمر اليوم، يجب أن نتساءل عن أمر الغد. لقد جرت مراسيم تنصيب الرئيس المنتخب ـ لا ندري كيف ـ كيميائيا كما يرجح البعض، وستستمر مواسم التزلف والتقرب المناقضة لشعار القضاء على الفساد أياما آتية. دون شك، لا نهاية في القريب المنظور للاختطاف الذي تم إضفاء قدر من رتوش الشرعية عليه عبر الانتخابات التي جرت مؤخرا، وبمساهمة المناهضين للانقلاب على الديمقراطية أنفسهم.
في هذه الظروف يبدو محببا، وملائما لإبداء حسن النوايا، كما يزعم الكثيرون، أن نقفز على تلك المرحلة ونفتح نوافذ الآمال على عهد حسمت بدايته ويوشك أن يستمر. ينطلق البعض من أن هذا هو الواقع الذي أفرزته مرحلة اتسمت بالحوار والنقاش المثمر، وتوجت بما جرى واتبع من إجراءات وصولا إلى النتيجة المعروفة. يقولون ـ بعضهم لا أكثرـ أن من مصلحة موريتانيا أن يرضخ الجميع للأقدار ـ وكأن هناك من يحاربها برفضه الاعتراف ـ وأن يقتنع كل واحد بنصيبه السياسي الذي حصل عليه إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة وكأنها ضربة حظ.
يسهل القبول بالنتائج التي لم تكن متوقعة، انطلاقا من سعي مثالي ومتسامي مطبوع بالقدرة على التنازل، ومن جنوح إلى السلم والاستقرار الذي تظل البلاد في غنى عن فقدانه، ولكن هذا لا يعني البتة سهولة تصديق ما لا يمكن أن يصدق. وحتى إشعار آخر، فإن ملابسات ما أوصل إلى يوم تنصيب الجنرال محمد ولد عبد العزيز رئيسا منتخبا للبلاد يظل يكتنفها الغموض. بالطبع يجادل البعض بأن ما يهم ليس ما حصل، وإنما ما سيفرزه الواقع الجديد، ولكن ربما لن يجادل في أن ثمة أمورا مترابطة يؤثر أولها في آخرها، ويلقي سابقها بظلاله ـ الثقيلة أحيانا ـ على اللاحق.
تكمن أولويات المواطن البسيط، بعيدا عن كل ما لا يفهم وما لا يهمه أن يفهم، في ما يمكن أن ينجز لمصلحته وما سيعود عليه بالمنفعة والخير العميم. لكن عندما نؤمن أن المواطن البسيط لم يعد هو المواطن الساذج لا بد أن نكتشف أن السؤال: ماذا بعد؟.. سيظل مرتبطا بماذا قبل. من هذه الزاوية تصبح معرفة ما ينتظر من الرئيس الجديدـ القديم على صلة وثيقة بماضيه القريب وسياساته في الفترة السابقة.
يراهن البعض، خاصة أنصار الجنرال، على شعار جميل رفعه أثناء حملته التي بدأت مبكرة يصوره رئيسا للفقراء، وتقوم هذه الدعاية على زيارة لأحد الأحياء البائسة في العاصمة نواكشوط ـ يا للثورة المفاهيمية والعملية ـ لكنها تصطدم بجملة من الأسئلة أولها ماذا عن ثروة رئيس الفقراء نفسه؟ ثم ما علاقة الإنشاءات الانتخابية والوعود الوهمية بحل مشاكل المواطنين إذا كانت قضية "سكانيرات" ما تزال قريبة؟ ولا تنتهي الشكوك عند طوباوية مشاريعه المستقبلية التخديرية التي تقوم على عمليات حسابية كان يطرحها في تساؤلات استغرابية من قبيل: كيف لبلد يملك ما نملك من الثروات أن يعيش فيه فقير؟
يتمثل الركن الثاني في قائمة الخطوط العريضة لأجندة الجنرال كما ظهر من حملته وتعهداته المتواصلة، في القضاء على الفساد، وفي نفس الوقت فإن هذا المصطلح لديه يبدو أكثر هلامية من أي شيء آخر في معجمه السياسي، وقد ثبت من خلال تطبيقه لهذا المفهوم عمليا أنه مطاط، يتسع ليشمل كل مخالفيه في الرأي. وإذا كان من شيء يمكن أن يتماهي معه "الفساد" كما يعرفه سيادته، فهو الإرهاب في نظر الولايات المتحدة وكما حاربه بوش: كلمة لا معنى لها إلا ما تحدده لحظة القرارات التدميرية.
لقد روج على نطاق شامل لتصور مفاده أن شرائح واسعة من الضعفاء والمستضعفين والفقراء والمحرومين هي من أخذت على عاتقها مهمة حمل الجنرال إلى كرسي الرئاسة مجددا، وتقول الحكاية أن المواطن المنهك الذي تحطمت آماله وسحقت أحلامه في ظل فترات الحكم السابقة آمن أن الجنرال الساعي إلى منصب الرئيس المنتخب هو الأقرب لأن تعقد له ألوية الولاء ويصوت له من أجل إصلاح ما فسد وبناء ما لم يبن. وثمة جزء من الحقيقة، في هذا الطرح الذي لا يغفل طابعه ألإشهاري، يتمثل في تبرم فئات عريضة من المجتمع الموريتاني من الأوضاع، واستعداد بعضها لتعليق آماله على من يخطب وده بكلمات تلامس واقعه حتى ولو كانت مجرد كلمات، لكن "أسطورة" الدعم الشعبي القوي تخفي "معجرة" القوة الاقتصادية المشبوهة والآلة الأخطبوطية غير المشروعة التي سخرت لإدارة الحملة والتحكم في مجرى الانتخابات.
مهما يكن، فإن الفقراء الذين زعم أنهم كانوا وراء عودة العسكري إلى مقعده في ثوب مدني لا شك يفتحون الآن عيونهم ـ إذا كان لهم وجود ـ ويترقبون مع الآخرين من الخصوم والمنافسين الذين صدموا بدرجات متفاوتة على خلفية النتائج التي حملها الاقتراع، لعلهم يتابعون سويا مرحلة تنفيذ الوعود وإطلاق الورش والمشاريع التي ستكون كفيلة بانتشالهم من الأوضاع المتردية. وقد أشرعت لحظة تنصيب الجنرال المنتخب الباب على : ماذا بعد؟ ويملك الجميع في أذهانهم إجابات حاضرة تتراوح بين المثالية والسوداوية انطلاقا من تصورهم للمستقبل. إلا أن أحدا، أيا كانت درجة التفاؤل التي تحكم نظرته للعالم أصلا، لن يكون بمعزل دائم عن ربط أفكاره حول ما سيتحقق وما ستظهر للعيان سرابيته بمحطات من سيرة الرجل أثناء تجربته الماضية القصيرة قياسا إلى ما يعتقد أن تجربته الحالية ستعيشه.